تَغيِيبُ الأخلاَقِ العَاقِلة!
هل من تَحرُّرٍ بلاّ عَقل؟ وتَطوُّرٍ بدُونِ أخلاَق؟ هل يَجُوزُ الفصلُ بينَ العقولِ المُتَخلّقة والأخلاقِ العاقِلة؟
بعضُ الوُعّاظِ والإيديُولوجيّين يشتَركُون في الإجابة:
يَستَغِلّون المَفهُومَ الأخلاقِي والعَقلانِي، لتَوجِيهِ الرأيِ العامّ، في اتجاهاتٍ غيرِ عاقِلة، وغيرِ مُتَخَلّقة..
البعضُ يُوظّفون اللاّأخلاق، بذريعةِ ضَبطِ حُسنِ الخُلُق..
فرغمَ أنّ السياسةَ تَستَنِدُ - شَكليًّا - على مبادئَ أخلاقية، فإنّ فيها من يجنَحُون إلى أسبَقِياتٍ مَصلَحيّة، فيُضَحّون بالأخلاَق، لفائدةِ الأقوَى، ولتركيعِ الرّأيِ العام، لكي يَقتنِعَ الناسُ بمَنطقِ القُوّة، وبأنّ الأخلاقَ هي ما تراهُ الحكومة، لا ما يراهُ المُجتَمع..
أحزابٌ لا تقِفُ إلى جانبِ الأحَقّ، بل معَ الأقوَى.. وهذا نفسُ تَوَجُّهِ ثُلّةٍ من الوُعّاظ: نَظريّا مع الحقّ، وعَمليّا مع الغَنِيّ والقويّ..
وكِلاهُما - أحزابًا ووُعّاظًا - على مِنوالٍ واحِد.. في صَفّ الأغنَى والأقوَى والأَشَدّ، ومَن يَملكُ زِمامَ الأمُور، وفي قَبضتِه العَصَا والجَزَرة..
ونصِيبُ الفُقراءِ والمُحتاجِين هو الوَعظُ النَّظَرِي، والإرشادُ المِخيَالِي، أي نَقلُ حُقوقِ الحياةِ الدّنيا إلى أحلامِ نعِيمٍ في الآخِرَة..
وهكذا يُدخِلُون الشّكُوكَ واللاّثِقةَ واللاّمِصدَاقيّةَ إلى العَلاقةِ بين أتباعِ فِئتَيْن مُتَواطِئتيْن: الوُعّاظِ والأحزاب، وبالتالي يُحرّكُون ريّاحَ الخَلَلِ بين المُؤسّساتِ والمُجتمع..
ويتَسرّبُ الشّكُّ والرّيبةُ واللاّعَدلُ إلى البلد، ويُصبِحُ القَهرُ أداةً لفَرضِ أخلاقِ اللاّكرَامة..
وهذا الأسَاسُ، في علاقةِ الحُكومةِ مع المُجتمع، يُوَلّدُ نمُوذجًا التِفافيًّا لِلاّأخلاَق.. ويعنِي تَحويلَ الأخلاقِ الاجتِماعيّةِ إلى صُورةٍ للأخلاقياتِ الشكلية التي تَفرضُها الحُكومةُ على المُواطِن..
وتَفسَحُ السياسةُ المَجالَ واسِعًا لتَدَخُّلِ الوُعّاظِ إلى جانبِ الحُكومة، لإقناعِ المُجتمَع بأنّ الحقّ والعَدلَ والخَلاص، في قبضةِ الأخلاقِ السيّاسية..
وهكذا يَتواطؤُ رجالُ الدّينِ مع وُجهاءِ الأحزاب، لقيادةِ ما يَعتَبِرانِه "قطيعًا" واحدا، في مُجمَلِه على نمَطٍ واحد، في اتّجاهٍ واحد..
وبهذا يَنجحُ السّياسيّون والوُعّاظ في توحيد صُفوفِ فئاتٍ مُجتَمَعيّة لكي تُطبّقَ ما لا تَعرِف، وتَسِيرُ وِفقَ تَوجِيهاتٍ، لا على أساسِ قَناعات..
وبالجَهلِ والفقر، يَسهُلُ على "التّواطُؤِ الدّيني والحِزبي"
أن يَتَحَكّمَ في المُجتَمع، تحتَ غِطاءِ الأخلاقِ العامّةِ والخاصّة، ووِفقَ مِزاجيّةٍ نمَطيّةٍ مُجتمعيّة، أفرادُها صُورةٌ "طِبقَ الأصل" لبَعضِهم، عقليّةً وعَيشًا وتعبُّدًا، وكأنْ ليسَ من حقّ الناسِ أن يَختَلِفُوا عن بعضِهم..
ولا مجالَ للاختِلاف، في عالمِ التّديّنِ والتّسيُّس..
الاختِلافُ يُؤدي إلى التّمرُّد، حَسبَ مَنطقِ السياسي..
والاختِلافُ - عن الواعِظِ - يعنِي العِصيانَ وعذابَ الآخِرة..
ويَنصحُ الواعِظُ عامّةَ الناس بأن يُردّدُوا تُراثَ الأوّلين.. الآباء وأجدَادِ الأجدَاد…
وأغلبُ الوُعّاظ مُتّجِهٌ صوبَ الماضِي السّحِيق، منهُ يَستَمِدّون الكيفيةَ التي يُعالِجُون بها قضايا الحاضر..
إنهُم بالعَقلِ في الماضِي، وبالعواطِفِ في الحاضر..
وبين الحاضرِ والماضي، يضِيعُ مُستَقبَلُ "التّخلّقِ العاقِل" و"العقلِ المُتَخلّق"!
وهكذا نَتَأَرجَحُ بين ماضٍ غائب، وحاضرٍ فَضفَاض..
ونُفكّرُ ونتَعبّدُ ونُقرّر، بالاستِنادِ إلى زمنٍ قد ماتَ وانتَهَى..
- ويُنبَعِثُ مرةً أخرى وُعّاظُ الدينِ والسياسة..
يُسيّسُونَ الدّين، ويتَديّنُون بمِزاجٍ حِزبِي.. ويقولُ واعِظٌ من حزبِ تُجّار الدين: "قَلِّدُوا بَعضَكُم، ولا تُفكّروا"! وبهذا المَعنَى ينصَحُ السياسِيُّ الواعِظ، والواعِظُ السّياسِيّ..
ومنَ الواعِظ والسياسِيّ، نَسمعُ لُغةً واحِدةً، مع ازدِواجيّةٍ أخلاقيّة، ومَفادُها: أخلاقٌ باتّجاهِ الآخِرة، وأخرَى باتّجاهِ السّلطة..
وهكذا يتَشكّلُ الانفِصامُ بين أخلاقٍ يتلَقّاها الناسُ من وُعّاظ، وأُخرى يَفرضُها الواقعُ المُعاش..
والنتيجة: مِيلادُ أخلاقٍ ما هي بأخلاق..
وبتَعبيرٍ آخر: تَنشئةُ أمّةٍ بلا أخلاق..
وأمّةٌ بلا أخلاق، كارِثةٌ على نَفسِها وعلى غيرِها، وعلى كلّ البلد..
وهذه هي ثَمَرَةُ تَغيِيبِ العَقلِ والضّمِير عن المسارِ الأخلاقي الوَطني..
إنهُ عَجِينٌ للمَعقُولِ باللاّمَعقُول.. وخَليطٌ منَ الوَعظِ مع اللاّأخلاق.. - والفاعِلُون ما زالُوا كما كانُوا!
يَختَطِفُونَ الأخلاقَ مِن قلبِ المُؤسّسات.. والإدارات.. والأحزاب.. والنّقابات.. والمَجالِس.. والبَرلمانِ بِغُرفتَيْه..
وحتى مِن بعضِ دُورِ العِبادة..
يُحَوّلُونَها إلى مُلتَقياتٍ للمُقايَضةِ والاحتِكارِ والسّمسَرة..
ويتَظاهَرُون بصَلاةٍ شَكليّةٍ يُواكبُها تنشِيطٌ لسَماسِرَةِ العَقارات والرّشاوَى والوَساطاتِ وغيرِها…
وهُنا يَحصُلُ تقاطُعٌ مع أنواعٍ وأشكالٍ من تَجسِيداتِ الفَسَاد..
وتَختَفي الأخلاقُ حتى عن بديهياتِ الحياة: الصّحة والتّعليم والتّربية والعدالة الاجتِماعية…
ويتمُّ هذا بمُوازاةٍ مع طُغيانِ الاتّجارِ في الحُقوقِ الاجتِماعية..
وهذا قد حدَثَ ويَحدُثُ عندَنا، في مَوجَةِ اكتِساحِ التّديُّن، على حِسابِ الأخلاق..
وثُلّةٌ من "الوُعّاظ" تُسَيطِرُ على عُقولِ العامّة، وكأنّ على التّعبُّدِ أن يُلغِيّ الأخلاق.. بينما الأخلاقُ هدفٌ لا وسيلة..
التّعبُّدُ ليس غايةً في ذاتِه.. إنهُ مَسلَكٌ إلى حُسنِ الخُلُق..
وها قد سلّمْنا عُقُولَنا إلى بعضِ "الوُعّاظ"، سياسيّين ومُتديّنين، لتَوجِيهِها كيفَما اتّفَق، وفي أيّ اتّجاه، ووِفقَ هَوَاهُم ومَصالحِهِم..
وأصبحَ هؤلاء يُفتُون في شُؤونِ الحياةِ الخاصّة والعامة..
ويُوجّهُون الريّاحَ الاجتِماعية، لتَمكِينِ العامّة من سَطوةِ نُخبةٍ سياسيةٍ لا يَهُمّها إلاّ ما تَحصِدُ من هذه الصّفقَة..
وباتَ "الوَعظُ" يتحكّمُ في الأحزاب، ومن ثمّةَ في الجَماعاتِ المَحليةِ والبرلمانِ والحُكومة..
وأصبحَ هَدفُ الحُكومةِ هو التّعاملُ مع الوُعّاظ، وإهمالُ بقيةِ الناس.. - واستَولَت اللاّأخلاقُ على الانتخابات..
كما استَولَت على المسؤولياتِ الناجِمةِ عن مُختَلِفِ مَفاهِيمِ الدّيمُقراطية..
وتُوحِي الشّعوذةُ بأنّ سياسةَ التّدبيرِ تابِعةٌ للوُعّاظِ أكثرَ من القَوانِين..
وهكذا تَميَّعَت الأحزاب، ومعَها أخلاقُ السياسة..
وانتَشَر في طُول البلادِ وعَرضِها مُتسيّسُون رِيعيُّون، وبرلمانيّون ووُزراءُ يَحصُلون على مَعاشٍ غيرِ مُستَحَقّ..
كما انتَشَرَت تقاليدُ الرّشوةِ والابتِزازِ وشِراءِ الأصواتِ الانتِخابية…
والسياسيّون أصبحُوا فوقَ القانون..
وَوظائفُ عُليا تؤُولُ لأبناءِ الوُجَهاء..
وباتَ الفسادُ عادةً في حياتِنا العامّة.. - وماذا يُفيدُ الوَعظ؟
إنه يُقدّمُ النّصائح، وهذه من جِنسِ الآراء..
يَنصَحُ الناسَ ويُذكّرُهُم بعَواقبَ في انتِظارِهِم بدارِ الآخرة..
وماذا يَنتَظِرُ مَن لا يُصَلّي؟ ولا يصُوم؟ ولا يحُجّ؟
الوعظُ يُجِيب: يَنتظرُهم عذابُ جَهنّم، وبئسَ المَصِير..
إنهُ عِقابٌ غَيْبِيّ على عدمِ الصلاةِ والصّومِ والحجّ.. عقابٌ على طُرُقِ التّعبُّد، لا على حُسنِ السُّلُوك، واحترامِ الآخر، والتّعاوُنِ والتّآزُرِ وغيرِها من القِيّم السّلوكيةِ الإنسانية التي تُرضِي الضّمير.. وتُوجّهُ المَرءَ إلى الرّضا والسعادةِ داخلَ المُجتَمع..
بينما الوَعظُ المُتداوَلُ لا يَنفَكّ يَقُودُ الناسَ إلى عاداتٍ وتقاليدَ وطُرُقٍ تَعَبُّديةٍ ورِثُوهَا عن آبائهِم، ولم يَتِمّ إخضاعُها للتّحلِيلِ المَنطِقِي والعِلاجِ العَقلي..
وهذا الوَعظَ - بهذا التّوَجُّه - لا يُخاطبُ إلاّ مَشاعرَ مُستَمّدّة من خَيالاتِ أزمنةٍ غابِرة.. - وعندما يكُونُ الوَعظُ مُخالفًا للعَقل، يكونُ مُضِرّا، مُتأَرجِحًا بين الواقِعِ والخيال، ويَنحَرِف بإدراكاتِ الناسِ المُرتَبِطين بالحياةٍ اليَوميةِ المُعاشَة، وبالسّلُوكاتِ البَشريةِ المُتنَوّعة..
وهذا الخَلَلُ الفَردِي ينعكسُ سلبًا على السّلوكِ الإدارِي، عِلمًا بأنّ مُهِمّةَ الإدارةِ ليست "الدار الآخِرة".. إنها التّدبيرُ والتّسيِيرُ وخِدمةُ المُواطن، في حياتِه اليوميّة، لا تتَبُّعُ ومُراقبةُ خصوصياته..
والحَاصِلُ عندَنا أنّ أحزابَنا الحاكِمة، ووُعّاظَنا السّابحين في مَداراتِ السياسة، لا تُركّزُ على المسؤولية، بل على تبريرِ اللاّمَسؤولية في العَملِ الإداري..
وفي بعضِ الإداراتِ يَنصَرِفَ المُوظّفُ عن واجبِ العَمل، بحُجّةِ أنّه سيتَفَرّغ للصّلاة..
بينما الصلاةُ لها وقتُها، والعملُ له وقتُه..
ولكُلّ وقتٍ وقتُه.. ولا يجُوزُ الخلطُ بينهُما..
ومن يخلطُ بينَ العمَلِ والصلاة، فهو كمَن يَخلطُ بين واجِبيْن، فيعالجُ خيرًا بسُوء: يُصلّي لله على حسابِ حُقوقِ عبادِ الله..
واللهُ يُريدُ أن يُعطَى لكلّ ذي حقّ حقَّه، لا أن يُعطَى حقُّ هذا، على حِسابِ ذلك..
ومن يَخلطُ بينهُما، فهو يَخلطُ بين مَنافِعِ الدّنيا و"حسناتِ" الآخِرة، وبالتالي يَخلطُ بين الدّنيا والآخِرة، ويتَصرّفُ بطريقةٍ لاعقلانية، وَينزلقُ بسُلوكهِ إلى ما ليس مَقبُولاً..
كما يُسئُ استِخدامَ حُرّيةِ الاختيارِ بينَ وقتٍ وآخر، وبين أولوِيّةٍ وفرِيضةٍ يُمكنٌ أن تَنتَظِر..
ويُسِئُ للقانونِ الذي يُعتَبَرُ مُراقِبًا لأخلاقِ المِهنة..
وهذه مسؤوليةٌ لا نسمَعُها من الخطاباتِ الوعظيّة، وكأنّ حياةَ المرء تقتَصِرُ على الدّورانِ حول الآخِرة، ولا علاقةَ لها بالسّولكيّات اليوميّة.. - إنهم يَفصِلون بين الشأن الدُّنيوِي وشأنِ الآخرة..
ويَعتقدُون أنّ الدّنيا تابعةٌ للآخرة، وأنّ الدّنيا مَحكُومةٌ بالآخِرة.. وأنّ الدّنيا ما هي إلاّ مُلحَقَةٌ بالآخِرة..
وهذا خطأٌ.. إنهُ انفِصامٌ بين بُعدَيْن هُما الحياةُ وما بعدَ الحياة، ويَنتُجُ عنهُما كونُ الوعظِ لا يُنتِجُ الأخلاق، بل يُحوّلُ حياةَ الإنسان إلى خوفٍ من العقاب، ويَجعلُ منَ الصّورةِ الإلهية تَرعِيبًا وترهيبًا وجَحِيمًا، وبئسَ المَصير.. - والخائفُ لا يَعِي أنّ من يُحِبُّ اللهَ لا يَخَاف..
مَن يُحِبُّ لا يخافُ المَحبُوب..
ومَن يخافُ المَحبُوبُ فهُو لا يُحِبّ…
الخَوفُ لا يُنتِجُ الحُبَّ..
ومَن يَخافُ هو لا يَصنَعُ الأخلاق..
الخائفُ يَتوَهّم.. ويُوهِمُ نفسَه وغيرَهُ بصُورٍ سَطحيةٍ مَبنيّةٍ على مَشاعرَ سلبيةٍ هي أقربُ مِن أمراضٍ نفسيّة وعقليةٍ وعَصَبيّة..
الخوفُ لا يَصنعُ الأخلاق..
الخوفُ يصنَعُ التّخويفَ مِن عالَمٍ مَشحُونٍ باتّهاماتٍ لا تَنقَطِع.. وهذا هو المَجالُ الذي تَشتَغلُ فيه صُورٌ مِخياليةٌ قاتمةٌ تَحلُمُ بجَنّاتِ النّعِيم! - متى يَنتَهِي غَسلُ الأدمِغة؟
سياسيّون ورِجالُ دينٍ يَمتَهِنُون الشّعوَذة.. يَتَصيّدُونَ عقُولَ عامّةِ الناسِ ويُحَرّفُونَها.. ويَستَهتِرُونَ بحُقُوقِِ الوَطَنِ والمُواطِن.. والنّتيجة: ما زِلنا غارِقِينَ في أوحالِ وُعّاظِ الدّنيا، ووُعّاظِ الآخِرة!
متى تستَقلُّ العُقول؟
متَى نُحرّرُ عقُولَنا؟
[email protected]